تخطى إلى المحتوى

الدعاية -للمعلم

الإنسان كائن يتعلم باستمرار، وهذا يعني أنه سيظل يكتشف ما كان لديه بالأمس من جهل وقصور في الفهم، ولو افترضنا جدلاً أن تدفّق المعلومات والأفكار والأخبار والبحوث والتحليلات يتم بطريقة موضوعية وطبيعية، فإن استيعاب المرء لذلك القدر الهائل المتدفق والقادم من كل حدب وصوب سيظل منقوصاً، فنحن لا نستطيع أن نطّلع على كامل المعلومات المتعلقة بالصحة العامة والأغذية التي نتناولها والأجهزة المتنوعة التي نستخدمها، كما أننا لا نستطيع الاطلاع على كل البحوث والدراسات التي تتحدث عن توصيف المشكلات والأزمات التي نعاني منها… هذا كله يعني أن فهمنا للأمور سيظل غير مكتمل، ومتفاوت، وأحياناً متصادم، لكن ليس هذا ما يقلقني، إنما الذي يقلقني ذلك الجهد الضخم والمال الوفير الذي يُبذل من أجل خديعة الناس، وجَعْلهم يرون الأشياء على غير ما هي عليه؛ ولعلي أتحدث في هذا المقال عن تزييف الوعي عن طريق الدعاية والإعلان وخطورة ذلك على التفكير الراشد.
إن المشكل الذي كثيراً ما نواجهه لا يتصل بالأشياء واضحة البطلان؛ فالتعامل مع هذه سهل، لكن المشكل في تلك الأشياء المشروعة التي يتم التلاعب بها، والتمادي فيها حتى تتحول إلى أشياء باطلة وخطِرة.
إن العالم يُنفق سنوياً على الدعاية والإعلان ما يزيد على ستمائة مليار دولار، وهذه الأموال الطائلة تستهدف الترويج لكثير من البضائع والمنتجات والخدمات المتوفرة!
إن تعريف الإنسان الناس بسلعة يودّ بيعها شيء مشروع في الأصل، وهو حق من حقوقه، لكن الذي يتم الآن شيء يتجاوز ذلك بكثير، وهذا التجاوز يتجسد في العديد من الأمور:
1. على مدار التاريخ كان الإنسان ينتج ليستهلك، أي ينتج ما يحتاج إليه، لكن فن الدعاية والإعلان قلب المعادلة، وصار يطلب من الناس أن يتوسعوا في الاستهلاك حتى تتوسع الشركات والمصانع في الإنتاج، والوسيلة المتبعة في ذلك تعتمد على التضليل وقول غير الحقيقة، وبما أن الناس لا يعرفون عن كل شيء إلاّ أقل القليل، فإنهم مستعدون لتصديق كثير مما يسمعونه. إن الإعلان التجاري يحاول دائماً إشعال الرغبة في الاستهلاك وإيجاد رغبات جديدة؛ حيث يقول لك المعلنون: إذا أردت أن تكون سعيداً فاشترِ العطر الفلاني، واستخدم الصابون الفلاني، وإذا أردت أن تحسّن مزاجك فكل (الشوكلاته) الفلانية، وإذا أردت أن تشعر بالثقة بالنفس فاركب السيارة الفلانية.. الناس يتجاوبون مع ما تقوله الدعايات، ويتداولون ما يسمعونه، ويصبح جزءاً من نسيجهم الفكري والثقافي، ويورِّثونه لأولادهم وأحفادهم، مع أنه ليس هناك أي ضمانة لصحة كل ذلك، والصحيح منه تدخله المبالغة التي تصل إلى حد الكذب، ومع ذلك فالناس يصدقون من غير نقاش ولا جدال بسبب الضغط الرهيب لوسائل الإعلام الجبارة؛ إذ كيف سأقول إن الحذاء الفلاني ليس هو أفضل حذاء في العالم، وقد شاهدت في خمس فضائيات وقرأت في ست جرائد وعشر مجلات ما يؤكد أنه الحذاء الأفضل دون منازع؟! وهكذا تتكون المعتقدات والمفاهيم الخاطئة.
2. يتم استخدام المشاهير في تغيير قناعات الناس، والحقيقة أن وسائل الإعلام تُستثمر في جهل الناس؛ إذ إن كثيراً منا يظنون أن الإنسان إذا صار بطلاً في المصارعة، أو صار مغنياً مشهوراً.. فإنه يعرف أفضل مدرسة لتدريس أولاده، وأفضل معجون لتنظيف أسنانه… وهذا كله غير صحيح؛ إذ إن من الثابت أن البارعين في مجال من المجالات كثيراً ما يكونون عاديين أو أقل من عاديين في باقي المجالات، ولدينا ما لا يُحصى من الوقائع والمشاهدات على هذا.
3. إن التزييف يمتد إلى مجال البحث العلمي؛ إذ صارت الشركات الكبرى تدفع المال لمراكز البحوث حتى تقوم بإجراء الدراسات والبحوث التي تدل على كفاءة منتجات تلك الشركات، وإنتاج البحوث التي تنفي ما يُشاع ويُقال حول أضرار بعض المنتجات حتى لا ينصرف الناس عن استهلاكها. وهكذا صرنا نشاهد ما يمكن أن نسميه الصراع البحثي: بحوث –مثلاً- تثبت الآثار السلبية للشاي والقهوة على صحة القلب، وبحوث أخرى تنفي، والمواطن العادي غير قادر –طبعاً- على تمحيص ذلك واتخاذ موقف سديد منه. وقد لاحظنا عبر السنوات الخمس الماضية وجود فيض من البحوث التي تشير إلى الأضرار الكبيرة التي تلحقها ذبذبات (الجوال) بالدماغ، كما لاحظنا وجود فيض من البحوث التي تنفي ذلك، فأيها هو الصحيح؟ لا أحد يدري!!
ومن المؤسف أن (الرشوة) قد دخلت على بعض المهن الإنسانية العظيمة (الطب) مثلاً؛ إذ تجد أن الطبيب يصف لك دواء معيناً تنتجه شركة معينة، ويحاول إقناعك بأن هذا الدواء أنجح من نظيره الذي تنتجه الشركة الفلانية! لماذا هذا الإصرار على شراء دواء معين من قبل المرضى؟!
الجواب يكمن في تمويل حضور مؤتمر لذلك الطبيب أو في جهاز حاسب (لاب توب) تم تقديمه له هدية! المريض المسكين يدفع المال ويتناول دواء قد لا يكون هو الأفضل، ومع هذا وذاك يتشبع بقناعة خاطئة حول جودة الدواء الذي يتناوله!
وهكذا تمثل الدعاية بجبروتها وانتشارها مصدراً للتضليل وإشاعة المفاهيم غير الصحيحة، ونحن نشعر بالعجز عن عمل أي شيء سوى هذه الأحرف والكلمات التي نسطرها هنا وهناك استرشاداً بالمثل العربي القديم "أشبعْتُهم سبّاً وأوْدَوْا بالإبل


سبحان الله و بحمده

الوسوم:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.